صلاح الدين الأيوبي: الجزء الأول
الفصل الأول: زواج نجم الدين
كان نجم
الدين أيوب، أمير تكريت، يحمل في قلبه طموحًا يتجاوز حدود السلطة
والثروة، فقد كان يبحث عن امرأة صالحة تأخذ بيده إلى الجنة، وتكون أمًا لفارس يعيد
للمسلمين مجدهم المفقود في بيت المقدس. وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي
بذلها أخوه، أسد الدين شيركوه، لإقناعه بالزواج من بنات الملوك والأمراء، ظل نجم
الدين ثابتًا على موقفه، رافضًا الزواج ممن لا يتوافقن مع حلمه الكبير. كان يؤمن
بأن من أخلص لله النية، رزقه الله ما يطمح إليه.
وذات يوم، وبينما كان يجلس في أحد
مساجد تكريت يتحدث إلى شيخ جليل، سمع صوت فتاة تستشيره في أمر خطبة أحد الشباب
إليها. كان الشاب ذا مكانة وجاه، لكنها ردته قائلة إنها تبحث عن رجل يأخذ بيدها
إلى الجنة، وتنجب منه ولدًا يصبح فارسًا يعيد للمسلمين بيت المقدس. كانت كلماتها
كالصدى لما يدور في قلب نجم الدين، وكأن القدر كان يُرتب هذا اللقاء بعناية
إلهية.
لم يتردد نجم الدين، فطلب من الشيخ أن
تكون هذه الفتاة زوجة له، لكن الشيخ أخبره بأنها من فقراء الحي، لا تملك مالًا ولا
نسبًا. ومع ذلك، كان نجم الدين يرى فيها حلمه الذي طال انتظاره، فأصر على الزواج
منها، واضعًا نصب عينيه الغاية التي طالما سعى إليها.
وهكذا، تزوج نجم الدين من الفتاة التي
لم تكن أميرة ولا سليلة أمراء، لكنها كانت تحمل في قلبها نفس الطموح، ليبدآ معًا
رحلة حياة عنوانها الإيمان والإخلاص، وتكون ثمرة هذا الزواج ولادة بطل سيغير مجرى
التاريخ
الفصل الثاني: النسب والولادة
في عام 1138م (532 هـ)، وُلد أحد أعظم
القادة العسكريين في تاريخ الإسلام، صلاح الدين
الأيوبي، في مدينة تكريت بالعراق. حيث صادفت تلك الليلة مغادرة والده
نجم الدين أيوب المدينة، بعدما كان واليًا عليها، ليبدأ صلاح الدين رحلة مصيره
الذي سيتشكل في قلب الأحداث التاريخية.
تعود أصول العائلة الأيوبية إلى
أيوب بن شاذي من مدينة دُوِين القديمة في أرمينيا، وهي المدينة التي نفي منها جد
صلاح الدين في عام 1130م، بعد أن استولى عليها أمير تركي. وعلى الرغم من
الاختلافات التي أثيرت حول نسب الأيوبيين، فبعض المؤرخين يرون أن أصولهم تعود إلى
الأكراد الروّاديين، بينما يصر آخرون على أنهم ينتمون إلى العرب.
لقد تبنى بعض الملوك الأيوبيين نسبًا
عربيًا نبيلًا بعد أن استقروا في السلطة، حيث أنكروا أصلهم الكردي وقالوا: نحن عرب
نزلنا عند الأكراد وتزوجنا منهم. لكن هذا الجدل حول أصل العائلة لم يتوقف، حتى أن الملك المعز إسماعيل الأيوبي حاول أن يربط نسبهم ببني أمية، بينما نفى الملك
العادل سيف الدين ذلك تمامًا.
أما صلاح الدين نفسه، فقد نشأ في دمشق،
حيث أمضى فترة شبابه في بلاط الملك نور الدين محمود بن زنكي. هناك، بين شوارع دمشق
العتيقة، عشق صلاح الدين العلم والمعرفة، فتلقى دراسات واسعة في الشريعة
الإسلامية، الرياضيات، والهندسة.
وكانت علوم الدين، وخصوصًا الفقه
الإسلامي، هي الأكثر جذبًا لصلاح الدين في تلك المرحلة. بل كان بعض معاصريه يصفونه
بأنه عالم في الهندسة الإقليدية والرياضيات المجسطية، حيث كان دائم البحث والتعلم.
لكن صلاح الدين لم يكن فقط عسكريًا، بل
كان محبًا للفروسية والخيول العربية الأصيلة. فقد درس سلالاتها بدقة وعرف أنقى
أنواعها دمًا، حتى أصبحت الفروسية جزءًا من شخصيته التي تميزت بالقوة والرشاقة.
مع مرور الزمن، سيحفر صلاح الدين اسمه
في التاريخ من خلال معركة حطين الشهيرة، حيث قاد جيوش المسلمين لاستعادة القدس من
الصليبيين، ليُخلّد اسمه كرمز للقوة، الشجاعة، والحكمة.
الفصل الثالث: بداية المجد والتحديات
في أواسط القرن الثاني عشر، كانت
الدولة العباسية قد تجزأت إلى عدّة دويلات. كان الفاطميون يحكمون مصر ويدعون
لخلفائهم على منابر المساجد ولا يعترفون بخلافة بغداد. وفي الشام، كان الصليبيون
يحتلون الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط من آسيا الصغرى إلى شبه جزيرة سيناء. أما شمال
العراق وسوريا الداخلية، فقد كان تحت سيطرة الأتابكة.
وسط هذا المشهد، بدأ نجم صلاح الدين
الأيوبي يلمع، حينما أقبل الوزير الفاطمي شاور بن
مجير السعدي إلى الشام فارًا من مصر، هربًا من الوزير ضرغام بن عامر
الذي استولى على الدولة المصرية وقتل ولده الأكبر. لجأ شاور إلى الملك نور الدين زنكي في دمشق، طالبًا المساعدة.
في رمضان سنة 558 هـ، قرر نور الدين
إرسال حملة عسكرية بقيادة أسد الدين شيركوه،
وكان صلاح الدين، ابن الستة والعشرين عامًا، ضمن هذه الحملة، على الرغم من عدم
رغبته في السفر.
الفصل الرابع: مصر ... طريق المجد وصناعة البطل
خرج جيش الشام من دمشق في جمادى الأولى
سنة 557 هـ، متجهًا إلى مصر في رحلة محفوفة بالمخاطر والتحديات. كان الهدف مزدوجًا:
دعم الوزير الفاطمي شاور واستكشاف نقاط ضعف الدولة الفاطمية. بعد معارك ضارية مع
جيش ضرغام، الذي لقي حتفه في النهاية، استعادت مصر توازنها تحت حكم شاور، لكن
سرعان ما غدر بحلفائه واستنجد بالصليبيين لمحاصرة جيش الشام في بلبيس. بعد ثلاثة
أشهر من الحصار، اضطر الجيش إلى الانسحاب، لكن التهديد الصليبي المتزايد دفعهم
للعودة مجددًا. وفي الحملة الثانية، وجد صلاح الدين نفسه في قلب الأحداث خلال
معركة الجيزة، حيث قاد القوات بذكاء مستفيدًا من تضاريس الصحراء الوعرة، محققًا
نصرًا حاسمًا رغم التفوق العددي للعدو. بعد ذلك، عاد الصليبيون لمحاولة السيطرة
على مصر، مما دفع نور الدين زنكي إلى إرسال جيش جديد بقيادة شيركوه، وكان صلاح
الدين في طليعته. هذه المرة، كانت النتيجة مختلفة تمامًا، فبعد دخول القاهرة في
شهر ربيع الآخر سنة 564 هـ، أُعدم شاور، وعُيّن شيركوه وزيرًا، لكن وفاته بعد بضعة
أشهر مهّدت الطريق أمام صلاح الدين ليصبح الرجل الأول في مصر. وهكذا، بدأت رحلته
الحقيقية نحو المجد، وأثبت أن العظمة تُبنى بالثبات والعزيمة. سنواته الأولى في
مصر لم تكن سهلة، فقد واجه الصراعات والتحديات التي صقلت شخصيته كقائد حكيم وعسكري
فذ. من شاب كاره للسفر إلى رجل دولة يقود الأمة، أثبت صلاح الدين أن الطريق إلى
المجد يبدأ دائمًا بخطوة يملؤها الإصرار.
الفصل الخامس: صلاح الدين ... من الوزارة إلى تأسيس الدولة الأيوبية
أصبح صلاح الدين الرجل الأول في مصر
بعد وفاة عمه أسد الدين شيركوه، حيث أسند إليه الخليفة الفاطمي الوزارة، ليجد نفسه
أمام مسؤولية كبرى في بلد تمزقه الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. لم يمرّ
توليه المنصب بسلام، فقد واجه مؤامرات ودسائس عديدة، كان أخطرها محاولة اغتياله من
قبل بعض الأمراء الفاطميين بتحريض من مؤتمن الخليفة، أحد خصيان القصر الطامعين في
السلطة. ولكن بحنكة وحزم، تمكن صلاح الدين من كشف المؤامرة وإحباطها، وواصل إحكام
قبضته على البلاد، حتى وصلت التحديات إلى ذروتها عندما ثار عليه فوج الزنوج الذي بلغ
تعداده خمسين ألف جنديا، فتمكن من سحق التمرد وإخماده نهائيًا، لتصبح مقاليد الحكم
بيده وحده.
على الجانب الآخر، كانت الحملات
الصليبية تراقب الأوضاع في مصر بقلق، فاستغل الملك
عموري الأول الفرصة ودعا إلى حملة عسكرية كبرى بالتعاون مع
الإمبراطورية البيزنطية. استهدف الصليبيون مدينة دمياط وحاصروها بخطة محكمة، إلا
أن صلاح الدين كان قد استعد جيدًا، حيث استبدل الحرس الفاطمي بحرس موالٍ له وأرسل
إلى نور الدين زنكي يستنجد به. تحرك نور الدين لشن هجمات على الإمارات الصليبية في
الشام لتخفيف الضغط عن مصر، فيما قامت الحامية المصرية بجهود بطولية في الدفاع عن
دمياط، وعندما هطلت الأمطار بغزارة وأصبحت المعسكرات الصليبية مستنقعات طينية،
اضطر الصليبيون للانسحاب مخلفين وراءهم معداتهم المحترقة، ليحقق صلاح الدين انتصارًا
جديدًا يرسّخ وجوده في مصر.
لم يتوقف صلاح الدين عند الدفاع فحسب،
بل قاد جيشه في هجوم مضاد، ملاحقًا الصليبيين حتى غزة، حيث دمّر تحصيناتهم وفتح
قلعة إيلات في خليج العقبة، ليؤكد سيطرته على البحر الأحمر ويضمن عدم تعرض السفن
الإسلامية لهجمات الفرسان الصليبيين.
وفي الوقت الذي كان فيه صلاح الدين
يعزز سلطته، جاءت أوامر نور الدين زنكي بإنهاء الحكم الفاطمي رسميًا من خلال إسقاط
اسم الخليفة الفاطمي من خطبة الجمعة واستبداله بالخليفة العباسي. ورغم تردد صلاح
الدين في اتخاذ هذه الخطوة خشية ردة الفعل، إلا أن الضغط المتزايد من نور الدين
أجبره على التنفيذ، فأُعلن ولاء مصر للخلافة العباسية في المسجد الأزهر عام 567
هـ، بالتزامن مع وفاة الخليفة الفاطمي العاضد لدين
الله، لتنتهي بذلك الدولة الفاطمية بعد أن حكمت مصر لأكثر من قرنين
ونصف.
بهذه الخطوة، أصبحت مصر قاعدة صلبة
لحكم صلاح الدين، الذي نقل أسرته إليها ليبدأ مرحلة جديدة من البناء والتوسع،
معلنًا بداية عصر جديد في المنطقة الإسلامية.
الفصل السادس: من توتر الخلفاء إلى مجد الدولة الأيوبية
عندما تولى صلاح الدين الأيوبي حكم مصر
عام 1171م، عمل على ترسيخ نفوذه والقضاء على ما تبقى من آثار الدولة الفاطمية ذات
التوجه الشيعي الإسماعيلي. كان من أبرز قراراته تحويل الجامع الأزهر، الذي أسسه
الفاطميون لنشر الدعوة الإسماعيلية، إلى مركز لتدريس مذهب أهل السنة، كما استبدل
القضاة الشيعة بقضاة شافعيين، وألغى مجالس الدعوة، وأزال مظاهر المذهب الشيعي. في
خطوة رمزية هامة، أمر صلاح الدين في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 565 هـ
بذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة، في إشارة واضحة إلى تبعية مصر للخلافة
العباسية السنية.
في الوقت الذي كان فيه صلاح الدين
يُحكم قبضته على مصر، بدأت علاقته مع نور الدين زنكي، الذي كان يُنظر إليه كالأب
الروحي له، تشهد توترًا متزايدًا. فقد أثار تردد صلاح الدين في إعلان الخطبة
للخليفة العباسي قلق نور الدين، الذي شك في نوايا تابعه وبدأ يفرض رقابة صارمة على
تحركاته. وبلغ التوتر ذروته عندما انسحب صلاح الدين من حصار الكرك والشوبك، مبررًا
ذلك بالأوضاع الداخلية في مصر، مما أثار استياء نور الدين وجعله يخطط للتدخل
عسكريًا لعزله.
في خضم هذه التحديات السياسية، واجه
صلاح الدين تهديدًا خارجيًا تمثل في هجوم الجيش النوبي على أسوان، إلا أنه تمكن من
رد هذا الهجوم بمساعدة شقيقه توران شاه،
الذي لاحق القوات النوبية حتى عمق أراضيهم. في الوقت نفسه، سعى صلاح الدين لإرضاء
نور الدين بإرسال دفعة من الأموال والهدايا الفاخرة، إلا أن التوتر ظل قائمًا.
بحلول عام 1174م، كان صلاح الدين قد
أحكم سيطرته على مصر وبدأ يوسّع نفوذه نحو الحجاز واليمن، حيث أرسل شقيقه شمس الدولة توران شاه لفرض السيطرة الأيوبية على
تلك المناطق. كما وجّه جيشه نحو المغرب الأدنى، حيث اصطدم بجيوش الدولة الموحدية
التي رأت في التوسع الأيوبي تهديدًا وجوديًا.
على الجانب الآخر، كان نور الدين زنكي يستعد لحملة عسكرية كبيرة لخلع صلاح الدين من مصر، إلا أن القدر لم يمهله حيث وافته المنية في مايو 1174م إثر مرض عضال، ليصبح الطريق مفتوحًا أمام صلاح الدين لإعلان استقلاله الكامل. بعد وفاة نور الدين، استحال صلاح الدين سيدًا على مصر والشام، حيث أعلن قيام الدولة الأيوبية التي أصبحت واحدة من أقوى القوى الإسلامية في ذلك العصر.
تعليقات
إرسال تعليق