القائمة الرئيسية

الصفحات

أبو تُراب: السَّيفُ الذي أنارَتهُ الحِكمةُ، والحِكمةُ التي صَقَلَتها السُّيوف

 "أبو تُراب: السَّيفُ الذي أنارَتهُ الحِكمةُ، والحِكمةُ التي صَقَلَتها السُّيوف"

مقدمة :

من أعماق التاريخ، حيث يكتب الإيمانُ ملاحمَ الخلود، يبرزُ فارسٌ ولد حيثُ لا يولد البشر، فشَقَّ جدارَ الكعبة نورًا... غُلامٌ ربَّاه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في حِجره، فصار امتدادًا لروح الرسالة



هو الفتى الذي نام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلةَ الهجرة مُستعدًّا للتضحية بحياته، وهو البطل الذي حطَّم أبواب خيبر بيدٍ تمسك السيف، وحمل القلم فسطَّر أعظم الحِكَم!

مزج بين دماء المعارك ودموع التضرع، فكان السيفَ الأقوى حين يستدعي الأمرُ ذلك، والكلمةَ الأصدقَ حين يخفت الزحام...

هو محارب لا يهاب الموت، وحكيم عارِفٌ بأسرار القرآن، وعاشق للعدل حتى في أحضان الفتن... ابنُ عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجُ بِضْعَتِه الطاهرة فاطمة، أبو الحسن والحسين ريحانَتَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنه الرجل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ: 

 « أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»،  

فمَرحَبًا بكم معنا في حضْرةِ الإمام المجاهد الشهيد، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين: علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه ورضي عنه

هيا بنا نرتحل في عَباب هذه الشخصية التاريخية التي قل نظيرُها، نغوص في تفاصيل سيرتها، ونستنطق مواقفها، لنفهم:

كيف ولدت اسطورة الرجل الذي جمع بين دماثة الحكمة وصلابة السيف؟

كيف عاش معلما للعدل، ومات شهيدا في محراب العبادة؟

كيف حول فتن الحياة إلى مدارس تتلمذَ فيها الثائرون على الظلم عبر العصور؟

وما سر الكلمات النبوية التي نُقشت عنه في سجل الخلود، مِن: «أنتَ مني بمنزلة هارون...» إلى «لأُعْطِيَّنَّ الراية رجلا يحب الله ورسوله....» ؟

وكيف استطاع أن يحاور اعداءه بقلم الحكمة قبل أن يقاتلهم بحد السيف؟

هذه الرحلة ليست سبرا لاحداث ماضية فحسب، بل استعادةً لروح رجل صنَع منهاج الحياة بقوة الإيمان، وترَكَ لنا دروسا تضاء بها عقول الأجيال.

الوِلادةُ والنشأة : 

وُلِدَ علي بن أبي طالب في جوف الكعبة المُشرَّفة بمكة المكرمة، قبل بِعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنحو عشر سنوات، سليلَ بيتٍ هاشميٍّ عريق؛ فأبوه أبو طالب بن عبد المطلب زعيم قريش وحامي حِمى الرسالةِ لاحقًا، وأمه فاطمة بنت أسد الهاشمية. 

نشأ في حِجْر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ طفولته، بعد أن تبناه تخفيفًا عن عمه أبي طالب الذي أثقلته أعباء الحياة وكثرة الأولاد، فكانت هذه التربية النبوية بَذرةً زرعتها الأقدار لتنمو شجرةً عظمى تُثمر إيمانًا لا يُهزَم، وحكمةً لا تُضاهى.

كان علِيٌّ أولَ فتى يُعلن إسلامه في مكة، وهو لم يتجاوز العاشرة، فلم يتردد في نصرة ابن عمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبل أن يُدرك معنى الرسالة تمامًا، فصار ظلَّه في الشِّعب، وحاميَ دعوتِه في الظلام، يُجيب النداء بقلبٍ يفيض إخلاصا.

لم يكن إسلامه مجرد كلمات يُرددها، بل دخل معترك الصراع مع قريشٍ وهو لا يزال غلاما، يُجابِه سَخَطَهم بجسارة، ويصدُّ أذاهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجسده النحيل، حتى بات رمزًا للفداء المبكر في تاريخ الإسلام.

زواجُهُ مِنَ السيدةِ فاطمةَ الزهراء : 

بعدما خَطَبَها عَدَدٌ مِن الصحابَةِ منهم أبو بكرٍ وعُمَرَ تَمَّ ردُّهُم جميعًا، تزوج الإمامُ عَلِي منَ السيدةِ فاطمةَ الزهراء، بنتِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ، كان زواجُهما مثالًا للبَساطةِ والوَرَع، وأنجبا السِّبطَين الحَسَنَ والحُسَين. وقد كان بيتُهما نموذجًا مباركًا تَجَلَّت فيه معاني المَوَدَّةِ والرَّحمة والصَّونِ والعفاف.

الشجاعةُ والإقدام : 

عُرفَ بشجاعتِهِ الفَذّة، وبَرَزَ ذلك في مواقفَ عديدة، هذِهِ بعضُ الشواهِد:

  • في ليلةِ الهجرةِ نام في فراشِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ رغمَ عِلمِهِ بخطورةِ الأمر، إذ كان المشركون يتربصون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه في فراشه.
  • في غزوةِ بدرٍ الكبرى، كان من الثلاثةِ الذين انتدبَهُمُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ لمبارزةِ صَناديدِ قريش.
  • أما في غزوةِ أُحُدٍ (في العام الثالث للهجرة)، فقد حَمَلَ الرايةَ بعدَ استشهادِ مصعب بن عمير، وثبَتَ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ بعدَ انسحابِ الرُّماة.
  • وفي غزوةِ الخندقْ (في العامِ الخامِسِ للهجرة)، بارَزَ عَمْرو بنُ عبدِ وُدٍّ أحدَ أعظمِ فرسانِ العربِ فَصَرَعَه.
  • في غزوةِ خيبر (في العام السابِعِ للهِجرة)، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﷺ: 'لأُعْطِيَّنَّ الرايةَ غدًا رجلا يفتح الله على يديه، يحبّ اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه.' وفُتِحَت على يديهِ حُصونُ خيبرَ وقَتَلَ مَرْحَبً فارس فرسانِ اليهودِ والذي كان مَضْرَبَ المَثَلِ في القُوَّةِ والفروسية.

خلافته والفِتَن :

تولى الإمام علي بن أبي طالب الخلافة عام 35 هـ في ظروفٍ بالغةِ التعقيد؛ فالأمة الإسلامية كانت تعاني من تمزقٍ سياسي واجتماعي بعد مقتل الخليفة عثمانَ بن عفان، الذي أشعل فتيلَ الفتنة بين المسلمين.  

كانت القبائل تتصارع على السلطة، والولايات الإسلامية تئنُّ من ظلم بعض الوُلاة، والصراع على الشرعية يتفاقم بين مَن يرى أحقيةَ عليٍّ بالخلافة (كوصيٍّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن يطالب بثأر عثمان (كالأمويين بقيادة معاويةَ بن أبي سفيان).

كانت معركة الجَمَل أُولى الفتن الكبرى في التاريخ الإسلامي، حيث واجه جيش الإمام علي بن أبي طالب جيشاً تزعَّمه طلحة بن عبيد الله والزبيرُ بن العوام، إلى جانب أم المؤمنين عائشة، التي خرجت على جَمَلٍ سُمِّيت المعركةُ باسمه. وبعد قتالٍ ضارٍ، حُسِمت المعركة بانتصار جيش الإمام علي، حيث قُتِل طلحة والزبير، بينما أعاد الإمام علي أم المؤمنين عائشة إلى المدينة المُنوَّرة معزَّزة مكرَّمة، دون أن يأسِر أحداً من جيش الخصوم.

ثم وقعت معركة صِفِّين بين جيش الإمام علي بن أبي طالب وجيش معاويةَ بن أبي سفيان، وحينما مال النصر لصالح جيش الإمام علي، لجأ معاوية إلى حيلةٍ ماكرة؛ حيث أمر جنودَه برفع المصاحف على أَسِنَّة الرماح دَعوةً لتحكيم القرآن. فاستجاب الإمام علي لطلبهم.

كما قاتَلَ عَلِيٌّ الخوارجَ فَوَأَدَ فِتْنَتَهُم في معركةِ النهرَوان (في العام الثامن والثلاثينَ للهجرة)،.  ورغم كثرةِ الفِتَنِ والمِحَن، ظَلَّ الإمامُ عَلِيٌّ ثابتًا على مبادئه في نُصرَةِ الحقِّ والعدل ومحاربةِ الباطلِ والظُّلم.

استشهاده :

في عام 40 للهجرة (الموافق لسنة ستِّمئةٍ وواحدٍ وستِّينَ ميلادية)، استُشهد الإمام علي بن أبي طالب كَرَّمَ اللهُ وجهه - رابع الخلفاء الراشدين وأول الأئمة عند أهل البيت - بطعنةٍ غادرةٍ بسيف مسموم على يد المجرم عبد الرحمن بن ملجِم المرادي، ذلك وهو ساجد في محراب صلاة الفجر بمسجد الكوفة، ليختتم حياتَه الزكيةَ عند عُمْر الثالثةِ والستين عاما، ويُدفَن في موطنِ عزتهِ وجهادِه (الكوفة)؛ حيث يشرق الآن ضريحه المطهَّر في النجف .

وقد حفلت خلافته التي دامت أكثر من أربع سنوات بتثبيت دعائم العدل ومقاومة الفتن، فكانت امتدادا لسُنة النبي صلى الله عليه وآله وسلمﷺ ودرعا واقيا للحق، حتى أصبح استشهاده نقطة تحول فاصلةٍ في تاريخ الأمة، أَرَّخَت لعصر جديد من التحديات والاختلافات.

بعضٌ مما قيلَ في الإمام عَلِي أميرِ المؤمنين :

قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يومَ الغَدير: هذا وليُّ مَن أنا مولاه، اللهم والِ مَن والاه، اللهم عادي مَن عاداه، مُؤكدا بِذَلِكَ مكانةَ الإمامِ علِي كَرَّم الله وجهَه عند نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم  وفَضْلَهُ على سائرِ الصَّحابة.

وفي مشهدٍ يُجَسدُ التآخي الإيماني، آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار قائلا:  تآخَوا في اللهِ أَخَوين أَخَوين، ثم أخذ بيدِ عليِّ بن أبي طالب وقال:  هذا أخي، فكانتْ أُخُوةٌ تعْبُر حدودَ النسَبِ إلى القلبِ وَالرُّوحِ.

ولم تكن هذه الأُخُوّة إلا لبِنةً في صرح مناقبه؛ فقد خاطبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يخاطب به أحَدًا: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فأضاءت هذه الكلمات دوره كخليفة روحي وعلمي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأثناء سرد سيرته العطرة، تتجلى علومه التي ألهَمَت العقول؛ فابن عباس رضي الله عنهما —حبر الأمة— يروي أنّ أقرأَنا أُبَيْ، وأقضانا عَلِيْ، فيما يصف ابن مسعود رضي الله عنه واقعَ المدينة بقوله: «كنا نتحدث أنَّ أقضى أهلِ المدينة علِيٌّ بن أبي طالب»، وفي هذا  تأكيدٌ على أن فقهَه لم يكن فقط فهمًا للنصوص، بل حكمة تلامس أعماق النفس البشرية.

أما بلاغته فتُشَكِّل عالَمًا قائمًا بذاته؛ فيكادُ يُجْمِع الأدباء على أنه بحر لا ساحل له في فصاحة اللسان، وسِجِلُّ نهجِ البلاغة خيرُ شاهدٍ على أن كلماته كانت معادلاً للسيوف في صراحتها، وللقمر في إشراقها. لقد أثْرى أسلوبَه بتلاقي ثقافة القرآن العميقة مع بساطة السليقة العربية الأصيلة، فخلق لغة تجمع بين قوة الحجة ورِقّة المعنى.

وإن اطلعتَ على شعره، فهو لغز في إبداعه؛ ولم تكن سيرته سوى انعكاسًا لشعاره الخالد بالزهد في الدنيا، فكان زهده وعبادته نورًا يهتدي به المتصوفةُ والزهادُ إلى يومنا هذا.

ختاما :

علي بن أبي طالب... رجلٌ صنعته الأقدار ليكون أسطورةً تتجاوز الزمن، فمن مهد الكعبة حيث ولد في حرم الله، إلى مشارف النجف حيث يرقد في ضريحه المقدس، سار دربًا جمع بين قَرابةِ النبوة والإمامة، وبين الفارس الحامي للرسالة والعالِم المدافع عن حقائقها.  

لم يكن مجردَ ابن عمٍّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان الرفيقَ الذي نام في فراشه ليلة الهجرة، والسيفَ الذي ذاد عن دعوته في بدر وأُحُد وغيرهما، والصوتَ الذي هز عروش الظلم.

في سيرته تتلاقى المتناقضات في تناغم عجيب:  

  • السيف والقلم: فبينما كان يقطع رؤوس الأعداء في ساحات القتال، كان يرسم بحروف خطبه فلسفةً للحياة في نهج البلاغة.  
  • الورع والحكمة: عاش زاهدًا كأنه راهبٌ بالليل، لكنه حاكمًا صارمًا كأنه أسَدٌ بالنهار.
  • الشجاعة والرحمة: هَزَمَ الأبطالَ في المعارك، لكنه بكى على قتلى الأعداء.

خلافته التي دامت أربع سنواتٍ فقط كانت كالبرق أضاء سماء الأمة ثم اختفى، لكن نورَها بقي يُنير طريق الثوار والمصلحين عبر القرون.  

اليوم، بعد أربعة عشر قرنًا، ما زال سيف ذي الفقار يلمع في ذاكرة التاريخ، وما زال ضريح النجف قِبلةً للملايين، شاهدةً على أن مَن يموت من أجل الحق لا يموت أبدًا.

عِبَرٌ من سيرة الإمام علي في الفتنة :

تُقَدم سيرة الإمام علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- في أحداث الفتنة دروساً عميقةً تُلهم الأجيال، منها:

  • الصراع الأزلي بين الحق والباطل:

إن الثبات على المبادئ في خضم الفتنة هو جوهر النجاة، فالحق –وإن طال به الزمن– لابد أن يَظهر، لكنه يحتاج إلى صبر الحكيم وإرادة الثابت.

  • الحكمة فوق القوة:

لم تكن سيوف الإمام علي رديفاً للعنف، بل أداةً لإحقاق العدل، فقد آمن بأن حل الفتنة لا يكون بالاندفاع العسكري وحده، بل بفكرٍ يستنير بالقرآن، وحكمةٍ ترفع الظلم دون أن تُزهق الروح.

  • العدل.. بَوصَلَةُ الخلود:

رفَضَ الإمام علي -عليه السلام- المساومةَ على مبادئه حتى لو كلفه ذلك السلطةَ الزائلة، فخلَّد التاريخ مواقفَهُ كشاهدٍ على أن العظمة الحقيقية تكمن في العدل الذي يَبقى حين تزول المكاسب.

تساؤلات للتأمل :

لماذا رُفِضت خِطبة كبار الصحابة لفاطمة، وقُدِّم عليٌّ زوجًا لها؟ 

ما السر وراء قولِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لأُعْطِيَّنَّ الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» في غزوة خيبر؟

ماذا يعني أن يؤاخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليًا قائلًا: «هذا أخي»؟

ماذا يعني أن يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر أيامه بيد علي وسط آلاف الصحابة ثم يقول: هذا ولي من أنا مولاه، اللهم والِ من والاه، اللهم عادي من عاداه ؟

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع