القائمة الرئيسية

الصفحات

01 - صناعة الكمال ... سرُّ السيرة النبوية : الجاهلية

 

الجاهلية  

مقدمة :

 لعل أَوْلى ما نستهلُّ به هذه السلسلةَ المبارَكةَ عن السيرةِ العَطِرَةِ لخاتمِ الأنبياءِ وسيدِ والمرسَلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو الحديثُ عَنِ الحالةِ العامةِ التي عاشها العالَمُ قبلَ بِعثتِه، وهي الفترةُ التي أطلَقَ عليها القرآنُ الكريمُ اسم "الجاهلية". لم يكن هذا الاسمُ مجردَ حقبةٍ زمنيةٍ معينة. وإنما هو وصفٌ يعبِّرُ عَنِ الانحرافاتِ العَقَدِية، والاجتماعيةِ والأخلاقيةِ والاقتصاديةِ السائدةِ في ذلك العصر والتي يمْكن أن تظهرَ في عصورٍ أخرى.



وقد ورَد لفظُ "الجاهلية" في القرآنِ الكريمِ في أربعةِ مواضع، عالج كلُّ موضعٍ منها جانبًا من جوانبِ الانحرافِ في تلك الفترة، وسنستعرضُها بالتفصيل مع أمثلةٍ وشواهدَ توضّحُ أوجُهَ الفسادِ في تلك المرحلة:

 


أولا: ظنُّ الجاهلية: انحرافُ العقيدةِ وعبادةُ الأوثان.

قال الله تعالى في سورة آل عمران:

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ 

 تصفُ هذه الآيةُ الكريمةُ حالةَ الضعفِ الإيماني التي أصابت بعضَ المسلمين أثناء غزوةِ أُحُدٍ بعد الهزيمةِ التي لحقتْ بهم. فقد ظَن فريقّ منهم أن بقاءَهم في بيوتِهم وعدمُ خروجِهم للقتالِ كان سيجنبُهم الموت، فاعتقدوا أن الأمورَ تجري بمعزلٍ عن قضاءِ اللهِ وقدَرِه، وهذا ما وصفه الله تعالى بـ "ظن الجاهلية"

 كما كان انحرافُ العقيدةِ يتجلى بشكلٍ أكبرَ في تأليهِ بعضِ الأصنامِ، مثل اللاتِ والعُزَّى ومناة، حيث كان العربُ يعتقدون أنها تقربُهم إلى اللهِ زُلفى. كانوا يقدِّمون لها القرابينَ والنُّذُور، ويسجدون لها، ظانِّين أنها تمْلكُ النفعَ أو الضُّر، وقد بَعَثَ اللهُ نبيه صلى الله عليه وسلم لهدمِ هذا الانحرافِ العَقَدي، وإحياءِ عقيدةِ التوحيد.

 ثانيا: حُكْمُ الجاهلية: الفوضى في القضاءِ وظلمُ الضعفاءِ واختلالُ ميزانِ العدل.

 قال الله تعالى في سورة المائدة:

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

في هذا الموضع، يشير القرآن الكريم إلى جانب آخر من جوانب الجاهلية، وهو فسادُ القضاءِ والتشريع. فقد كان الناسُ يتحاكمون إلى الأعرافِ القَبَلِيَّة وأهواءِ الزعماءِ التي كثيرًا ما تكونُ ظالمةً وتفتقرُ إلى العدالةِ والإنصاف. وكان الحكمُ في الجاهليةِ يتسمُ بالتحيُّزِ إلى أصحابِ النفوذِ والسلطان، بينما تُهْدَرُ حقوقُ البسطاءِ والمستضعفين.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الفساد بقوله:

"أَمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها." رواه البخاري.

بهذا الوصف، يظهرُ أن الجاهليةَ كانت تُحابي الأثرياءَ وأصحابَ النفوذ، وتتغاضى عن جرائمِهم، بينما تطبقُ العقوبةَ على البسطاءِ والضعفاء.

جاء الإسلامُ ليؤسسَ نظامًا قضائيًا قائمًا على العدلِ المطلق، لا يُفرِّقُ بين غنيٍّ وفقير، أو قويٍّ وضعيف، فالجميعُ سواسيةٌ أمام أحكامِ اللهِ عز وجل. 

ثالثا: تبرجُ الجاهلية: الفسادُ الأخلاقي والاجتماعي.

قال الله تعالى في سورة الأحزاب:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ

تشيرُ الآيةُ إلى مظهرٍ بارزٍ من مظاهرِ الفسادِ الأخلاقي في الجاهلية، وهو تبرجُ النساءِ وتَعَمُّدُهُنَّ إظهارَ زينَتِهِنَّ إثارةً للفتنة. وقد  انتشرَ الزنا بمسمياتٍ وانواعٍ مختلِفَة.

إضافةً إلى ذلك، عُرفتِ الجاهليةُ بأنواعٍ من الزواجِ الفاسد، مثل:

  • زواجُ الرهط: حيث يشتركُ عددٌ من الرجالِ في زوجةٍ واحدة.
  • زواجُ الاستبضاع: حيث يرسلُ الزوجُ زوجتَه إلى رجُلٍ آخرَ لينجبَ منها ولدًا.

ومن أبشعِ المظاهرِ الاجتماعيةِ التي سادت في تلك الحقبة أيضا وأدُ البنات، وهي جريمةٌ نكراءٌ كان يقترفُها بعضُ العربِ للتخلصِ من المواليدِ الإناث، خوفًا من العار، ومنَ الذكورِ والإناثِ خوفا من الفقر، وقد صَوَّر اللهُ سبحانَه حالَهم في كتابِه الكريمِ عند تلقِّيهِم نبأَ ميلادِ أنثى بقولِه: "وإذا بُشِّرَ أحدُهُم بالأنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسْوَدًّا وهو كظيم. يَتَوارى منَ القومِ منْ سوءِ ما بُشِّرَ به. أيُمْسِكُهُ على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التراب".

وقد حرَّمَ الإسلامُ هذه الجرائمَ البَشِعَةَ التي تُخالِفَ الفطرةَ الإنسانيةَ السليمة، حيث قال الله تعالى في سورة الإسراء: 

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا

جاء الإسلامُ ليقضي على هذه العاداتِ البئيسةِ، ويؤسسَ مجتمعًا قائمًا على العفةِ والكرامةِ الإنسانية، حيث حرّم الزنا، وألغى أنواعَ الزواجِ الفاسدة، ورفعَ مكانةَ المرأةِ وحرَّمَ وأدَ البنات.

رابعا: حَمِيَّةُ الجاهلية: التعصبُ للقَبيلِةِ أوِ العشيرة.

قال الله تعالى في سورةِ الفتح:

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 

الحميةُ تعني الاصطفافُ لمواجهةِ العدو، وهو أمرٌ قد يبدو في ظاهرِهِ إيجابيًا، إذ يمنحُ أفرادَ القبيلةِ شعورًا بالهويةِ والانتماءِ والأمان. غير أنَّ المشكلةَ تظهرُ عندما يتحولُ هذا الاصطفافُ إلى تأييدٍ للظلم، وهو ما أطلقَ عليه القرآنُ الكريمُ وصفَ "حَمِيَّةِ الجاهلية".

كانت "حمِيَّةُ الجاهلية" تُجَسِّدُ التعصبَ الأعمى للقبيلةِ أو العشيرة، دونَ مراعاةٍ للحقِّ أو الباطل. فكان العربُ يَدْعَمُون أقاربَهُم في النزاعاتِ ولو كانوا ظالمين، الأمرُ الذي أدى إلى اندلاعِ حروبٍ مُفْنِيَّةٍ لأسبابٍ واهيةٍ مثل:

  • حربُ داحِس والغبراء التي اندلعت بسببِ سباقِ خيل.
  • حربُ البَسوس التي استمرت أربعين عامًا بسببِ ناقة.

جاء الإسلامُ لِيهدمَ هذه العصبيات، ويقيمَ مجتمعًا قويا متماسكا أساسُهُ العدلُ والأخوةُ الإيمانية، حيث قال الله تعالى : 

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

بالإضافةِ إلى ما سبق، شهدت تلك الفترةُ مظاهرَ أخرى منَ الانحرافاتِ الاجتماعيةِ والاقتصادية، كان من أبرزِها انتشارُ الربا، الذي كان أحدَ أعمدةِ النظامِ الاقتصادي الجاهلي. فقد اعتادَ العربُ على استغلالِ حاجاتِ الفقراءِ والمحتاجين من خلال فرضِ فوائدَ عاليةٍ على القروض، مما يؤدي إلى زيادةِ معاناتِهم واستعبادِهم ماليًا.

كما انتشرت الأسواقُ غيرُ المنضبطة، حيث كان الغش في البيعِ والشراء ظاهرةً شائعة، سواءٌ بإنقاصِ الموازين أو جودةِ السلع.

إلى جانبِ ذلك، سادتِ العبوديةُ والاسترقاق، حيث كان الأثرياءُ يتاجرون بالبشرِ كسلعةٍ فيما يسمى أسواقُ النِّخاسةِ في امتهانٍ سافرٍ لكرامةِ الإنسانِ وحقوقِه.

مظاهرُ الانحطاطِ الأخلاقي والانتكاسةُ الفطريةُ أكدت حاجة البشريةِ وخاصةٌ العربَ في شبهِ الجزيرةِ العربيةِ إلى مُخَلِّصٍ من هذا المستنقع، وهو ما جاءت به رسالةُ الإسلامِ وابتُعِثَ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأجْلِ إصلاحِ هذه الأوضاعِ وتحقيقِ العدلِ ومَكارِمِ الأخلاقِ بين الناس. 

خاتمة:

 إن هذه المواضعَ الأربعةَ التي ذَكَرَ فيها القرآنُ الكريمُ الجاهليةَ تكشفُ أهمَّ أوجهِ الانحرافِ التي سادت في تلك الفترة، سواءٌ في العقيدةِ أو التشريعِ أو الأخلاقِ أو العلاقاتِ الاجتماعية. وقد جاء الإسلامُ لينقذَ البشريةَ من هذا الظلام، ويُقيمَ نظامًا شاملًا يرتقي بالإنسانِ في جميعِ جوانبِ حياتِه، وينشرُ العدلَ والرحمةَ والحقَّ بين الناس.

تعليقات

التنقل السريع