القائمة الرئيسية

الصفحات

02 - صناعة الكمال... سرُّ السيرة النبوية : حَمِيَّةُ الجاهلية.

حَمِيَّةُ الجاهلية: جُذُورُ الصراعِ والعصبيةِ في التاريخِ العربي.

مقدمة :

يقولُ الله تعالى:

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 

الحَمِيَّةُ كما ذكرنا في الفيديو السابق، تعني الاصطفافَ في مواجهةِ الأعداء. وَرَدَ مصطلحُ "حَمِيَّةِ الجاهلية" في القرآنِ الكريمِ بمعنىً يُفيدُ الولاءَ الأعمى للقبيلةِ أو العِرقِ على حسابِ الحقِّ والعدل، وهو سُلوكٌ نَبَذَهُ الإسلامُ لِما يُسببهُ من تمزيقٍ للنَّسِيجِ الاجتماعي. وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه العصبيةِ في مواقفَ عديدة


منها ما وقعَ بين الأوسِ والخزرجِ بعد الهجرةِ في المدينةِ المنورة، حيث كَادَ الفريقانِ أنْ يقتتلا بسببِ تذكّرِهم ليومِ بُعاثٍ وهو من الأيامِ الداميةِ في تاريخِ الأوسِ والخزرج، لولا أن تداركَهُم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولِه:

يا معشرَ المسلمين! اللهَ الله .. أَبِدَعوى الجاهلية، وأنا بين أَظهُرِكُم، بعد إذ هداكُمُ الله إلى الإسلام، وأكرمَكُم به، وقطعَ به عنكُم أمرَ الجاهلية، واستنقذَكُم به منَ الكفر، وألَّفَ به بينَكم، تَرجعون إلى ما كنتم عليه كُفَّارا 

أيامُ العربِ الدامية: حروبٌ ألهَبَتها العصبية

  حَربُ داحِسٍ والغَبْراء: شَرَفٌ مُزَيَّفٌ على حوافرِ الخيل

اندلعت هذه الحربُ بين قبيلتي عَبْسٍ وذُبيانٍ بسببِ سباقِ خَيل! فقد اتفقَ الطرَفانِ على سباقِ فَرَسَيْنِ هما "داحِس" و"الغبراء"، لكن إحدى القبيلَتَيْنِ غَشَّت في السِّباقِ لِضَمانِ فَوزِ فرسِها. تَحَوَّلَ الخلافُ إلى حربٍ دامت أربعينَ عاماً، ذهبَ ضَحِيَّتَها الآلاف، وخلّفت دماراً اقتصادياً واجتماعياً. 

فحين يُصبحُ الشرَفُ مجردَ غِطاءٍ للعنادِ والاستعلاء، يتحوّل إلى أداةِ دمارٍ لا بِناء.

 حربُ البَسُوس: ناقةٌ أشعلت أربعينَ عاماً من الثأر

بَدَأَتِ الحِكايةُ عندما قَتَلَ كُلَيْبٌ بنُ ربيعةَ (زعيمُ قبيلةِ تَغلِب) ناقةَ البَسُوس (ضيفةُ ابنُ عمِّهِ جَسّاس من قبيلةِ بَكر)، فاندلعت حربٌ طاحنةٌ بين القبيلتينِ استمرت أربعين عاماً. رغمَ بَساطةِ السبب، إلّا أن جذورَ الصراعِ كانت أعمق: تعصُّبٌ قَبَلِي، وغيابُ الحِكْمةِ  والتَّأَنِّي، وإرثُ الثأرِ الذي التهمَ الأجيال. 

اعتبار الثأرِ قانونًا مقدسًا، حتى لو أدى إلى فناءِ الأجيال  

  ففي حربِ البسوس، لم يتوقفِ الثأرُ عند قاتلِ كُلَيْب، بل استمرتِ الحربُ لعقودٍ حيث تَقَاتَلَ أبناءُ عمومةٍ لم يولَدُوا بعدُ حينَ الواقعة  

 :يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم  

   «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (رواه أبو داود)

. يومُ بُعاث: الأَوسُ والخَزْرَج.. عَداوَةٌ كادت تُطفِئُ نورَ الإسلام

قُبَيْلَ الهِجرةِ النبوية، كادت معركةُ "بُعاث" أن تُعِيدَ إشعالَ العَداوَةِ بين الأوسِ والخَزْرَجِ في المدينة، لولا تَدَخُّلُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذكَّرَهُم بأُخُوَّةِ الإيمان: 

أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيكُم  

المجتمعُ القائمُ على العصبيةِ القَبَلِيّةِ مُجتَمَعٌ هَشّ، أمّا المُجتَمَعُ المؤمنُ فجِدارُهُ الأُخُوّةُ الإيمانية

لماذا نستحضر هذه الحروب اليوم؟ 

لأن حَمِيَّةَ الجاهليةِ لا تزالُ تتجلى في صورٍ معاصرة، مثل التعصُّبِ الأعمى لفريقٍ رياضي، والطائفيةِ بين أبناء الدين الواحد، والعنصريةِ المبنية على العرق أو اللون أو الجنس، والتي تُؤججُ الفرقة بين أفراد المجتمع 

معالجة الإسلام لجذور العصبية 

لمواجهة هذه الظواهر، يُعالجُ الإسلامُ جذورَ العصبيةِ من خلال تعزيز الوحدةِ على أساس التقوى، كما قال الله تعالى : 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

وأكد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة في خطبة الوداع بقوله

يا أيها الناسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: فليُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ 

حل مشكلة التصعيد

كما تُعلِّمُنا هذه الحروبُ أن غيابَ الحكمةِ قد يُحوِّلُ الخلافاتِ الصغيرةَ إلى كوارث، وأن الحوارَ والعفوَ خيرٌ من التصعيد. والتصعيدُ في الخصومةِ من سماتِ الجاهليةِ التي جاء الإسلامُ ليقضي عليها، فكم من نزاعٍ بسيطٍ بدأ بشتيمةٍ ثم انتهى بدماء! والموقفُ السليمُ أن يردَّ المرءُ الإساءةَ بمثلها في أسوأ الأحوال، أو يعفو ويصفح في أحسنها. قال تعالى:

فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 

كيف حوَّل الإسلامُ "الحَميَّة" إلى فضيلة؟ 

لم يُلْغِ الإسلامُ مفهومَ "الحَميَّة"، لكنهُ هذَّبهُ ليصبحَ دفاعًا عن الحقِّ لا عن الهوى، فكان العدلُ فوقَ القرابةِ والانتماء، كما 

قال الله تعالى: 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ

كما استبدلَ الإسلامُ منطقَ الثأرِ بمبدأِ القِصاصِ العادل، فقال تعالى: 

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا 

لكنهُ في الوقتِ نفسهِ أوصى بالعفوِ لمن استطاع :

فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

ولم يقتصر الأمرُ على تقنين العدالة، بل عزَّز الإسلامُ الوحدةَ الإيمانيةَ التي تتجاوزُ العصبيات، فقد آخى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، فذابت الفوارقُ تحت رايةِ الأخوة الصادقة، امتثالًا لقوله تعالى: 

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 

خاتمة 

وهكذا انتقلنا من الفهمِ الجاهليِّ لشعارِ "أُنصُر أخاكَ ظالماً أو مظلوماً" إلى معناه الإسلامي القائم على الإنصاف. فقد صحَّح النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا المفهومَ بقوله: 

«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، فلما سُئل: كيف ننصرهُ ظالِماً؟ أجاب: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ» رواه البخاري

أي تمنعهُ من الظلم. وهكذا يُرسِّخُ الإسلامُ الولاءَ للحق، لا للأشخاصِ أو القبائل 

فهل نَتَّعِظُ من تاريخٍ دمَّرَتهُ العصبيةُ، أم نعيدُ إنتاجَ "حَمِيَّةِ الجاهليةِ" بثوبٍ جديد؟

تعليقات

التنقل السريع