شُعلةُ الحَقِّ لَا تَنطَفِئ : الجَهرُ بالدَّعوةِ بَينَ صَبرِ الأوَّلينَ واعتبارِ الآخِرين
تكوين النواة الأولى: بين الاختيار الإلهي والحكمة النبوية.
كما تَتَلَأْلَأُ النجومُ في ليل مظلم، برزت أول نواةٍ للإيمان في مكة، حاملة في طياتها حكمةً إلهية ورؤيةً نبويةً تتجلى في اختيار أشخاص مختلفين، لكنهم متكاملون.
فـخديجة بنت خويلد، التي كسرت حِجابَ الظلمة بإيمانها الأول، لم تكن مجرد سند مادي وعاطفي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانت مصباحًا يضيء طريق الدعوة بحكمتها وثقتها اليقينية. وإذا بـِعَلِي بن أبي طالب، الفتى الشجاع، يرفع سيفَ الإيمان في وجه الظلم، فيضحي بسلامته ليحمي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة، مُثْبتًا أن الشجاعة ليست حكايةَ عُمْر، بل قلبًا ينبض بالإيمانِ واتِّبَاعِ الحق.
ولم تكن القصةُ مجردَ مثابرةٍ روحية، فـأبو بَكرٍ الصِّدِّيق جَسَّدَ التوازنَ الفَذَّ بين الحكمةِ والجود، حيث حول ثروته إلى سلاح لإنقاذ العبيد مثل بلال، وصَيَّرَ صِدْقَهُ جسرًا لعبور الدعوة إلى القلوب. وبينما تتناثر الوجوه تحت سطوة العبودية، كان زيد بن حارثة يخط مثالًا للوفاء المطلق، مُؤْثِرًا رفقةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهله، ليصبح أولَ مولى يُعتَقُ ثم يُدعى ابن محمد".
فلماذا هؤلاء بالذات؟ لأنهم نسجوا معًا خريطة إنسانية شاملة: غِنى وفَقرًا، شبابًا وحكمة، شجاعةً ورِقة. فتنوعهم اجتذب شرائحَ المجتمعِ كلها، وتكامُلُ صفاتِهِم (صِدقُ أبي بكر، شجاعة علي، حكمة خديجة) جعل منهم مثالًا للتجمع القائم على الفضيلة، حيث لم تكن الدعوة صوتًا واحدًا، بل سيمفونية من القيم تُخَطُّ من حكيم قدير.
الجهر بالدعوة: سيمفونية إقناع تُعزَف على أوتار الحكمة
بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبتَهُ بسؤالٍ استدراجيٍّ ذكيّ: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خَيْلًا بالوادي تريد أن تُغِيرَ عليكم أكنتم مُصَدِّقِيّ؟». لِيُرسي أولَ لَبِنَةٍ في بناء المصداقية: فهو لم يطلب منهم تصديقَ الغيب أولًا، بل استند إلى منطقهم المادي، كجسر يَعبُرُ بهم إلى عالَم الإيمان. ثم انتقل في سلاسةٍ من التصديق في الأمور المحسوسة ("الخيل في الوادي") إلى التصديق في الغيبيات ("تحذيري من عذاب الآخرة")، وكأنه يَفتَحُ أبوابَ العقلِ واحدًا تلو الآخر قبل أن يَطرُقَ بابَ القلب.
أما التحذير الأخروي الذي خَتَمَ به الخطبة، فلم يكن مجردَ ترهيب، بل كان صفعةً من نورٍ تُوقظُ الضمائر: فالجمع بين الخوفِ المُقدَّر" والرحمةِ المُعلَنة" (مِن خلال تحذيره لهم كناصحٍ لأهلِه) حوَّل الخطابَ من وعظٍ عادي إلى رسالة إنقاذٍ وجودي. وهكذا لم تكن خطبة الصفا مجرد كلمات تُلقى، بل مسرحًا لِفنِّ الإقناع النبوي: تبدأ بالمنطق، تتعمق في الروح، وتُخْتَتَمُ بنداءٍ يهزُّ اليقينَ الزائف، كإعصارٍ يَقتلِعُ جذورَ الشك من أعماق القلوب.
آليَّات قريش في محاربة الدعوة: تشريحٌ لاستراتيجيَّةِ الهدم النفسي والاجتماعي
- اتهامٌ بالجنون ("مَجْنُون") لتحويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى شخصيةٍ هشَّةٍ غير موثوقة، فردَّ القرآنُ بصلابة: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون﴾، ليُعيد بناء الهيبة النبوية.
- اتِّهامٌ بالسحر "سَاحِر" لِتصويرِ الإسلامِ كخطرٍ يُهدِّدُ عاداتِهم الراسخة، فجاء ردُّ القرآنِ سُخريةً مِن ترديدِهم البليدِ لِأقوالِ الأممِ السابقة ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَر)، مُوضِّحًا أن اتهامَهم ليس إلا صدىً فارغًا لِتكذيبِ مَن سبقهم: ﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾.
- اتهامٌ بالشِّعر ("شَاعِر") لاختزال الوحي في إبداع بشري، فدَمَغَ القرآنُ زيفهم: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾، ليُثبِتَ أن كلام الله يفوقُ حدودَ الإنسانية.
أما في الجبهة الاجتماعية، فتحوَّلت الحرب إلى
حصارٍ اقتصاديٍّ وحشي: حُوصِرَ بنو هاشم في شِعْب أبي طالب ثلاثَ سنوات، حيث صار
التجويع سلاحًا لـكسر إرادة المؤمنين، بينما قاطعوا المسلمين تِجاريًّا لتحويلهم
إلى منبوذين" يُضْطَرُّون لبيع عقيدتهم مقابلَ لقمةِ خبز.
قصص الثبات: بين لظى التعذيب وسُمُوِّ الإرادة
قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِه
فصار ألَمُهُ وِسامًا يروي أن التعذيبَ لن يكون إلا وقودا لقصةٍ تَسطَعُ بعد ألفِ عام.
الهجرة إلى الحبشة: دروس في الدبلوماسية
والتعايش
العِبَرُ الخالدة: إضاءات للمستقبل من ماضي
الأمة
لا تزال سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
بناء الدولة الأولى تُقَدِّمُ دروسًا ملهمة للعصر الحديث: فاختياره لأصحابه لم يكن
مبنيًّا على الكثرة أو الثروة، بل على الإخلاص والكفاءة، وهو ما يحتاجه اليوم كلُّ
قائد يريد بناء فرق عمل ناجحة. كما أن توازنه بين الصراحة في تبليغ الرسالة
واحترام معتقدات الآخرين (كما في نهيه عن سب آلهة المشركين) يعلِّمُنا أن الإصلاح
لا يكون بالصدام، بل بالحكمة. أما التضحياتُ مِثْلَ استشهادِ سُمَيَّة، فهي تذكير
بأن الحريةَ والإيمانَ ثمنهما باهظ، وأن الانتصاراتِ الكبرى لا تُصنعُ إلا بأرواحٍ
ترفضُ الاستسلام.
أسئلةٌ للتَّأمُّل: حوار مع الذات الإنسانية.
ماذا لو استسلم بلال تحت الصخور؟ أو لو تخلى
عمَّارٌ عن إيمانه؟ ربما كان الإسلام سينتشر بطريقة أخرى، لكن قصصهم علمتنا أن
التضحيات الفردية هي وقود التغيير الجمعي.
أما رفض الوليد بن المغيرة للقرآن رغم إعجابه به، فيكشف عن صراع
الإنسان الأبدي بين عقله وهواه.
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لينجح
دون نخبة مخلصة مِثْلَ خديجةَ التي آمنت به، وأبي بكر الذي دعمه؟
هذه الأسئلة ليست اجترارًا للماضي، بل مرايا نرى فيها تحدياتنا اليوم: فكل جيل عليه أن يجد خديجته الخاصة، ويصنع هجرته المعاصرة، ويكتب فصول ثباته أمام أُمَيةَ عصرِه.
تعليقات
إرسال تعليق