القائمة الرئيسية

الصفحات

03 - صناعة الكمال... سرُّ السيرة النبوية : الجاهلية الاجتماعية.

 

الجاهلية الاجتماعية

مقدمة

سبَقَ وتحدثنا عن انتشارِ مظاهرِ الفسادِ في العصرِ الجاهلي في مختلفِ الميادين، كفسادِ العقيدةِ والفسادِ الاجتماعي والاقتصادي، وغيرِها من الجوانبِ التي ألقت بظلالِها على المجتمعِ الجاهلي. وفي هذه الحلقة سنركزُ على الفسادِ الاجتماعي الذي تجلى في عدةِ مظاهرَ سلبية كان لها تأثيرٌ عميقٌ على حياةِ الناسِ وقِيَمِهِم.

 

التبرج والزنا

من أبرزِ هذه المظاهر كانت قضيةُ التبرجِ والزنا بغطاءاتٍ من أنواعِ الزواجِ الفاسدة


كان التبرجُ أمراً شائعاً بين النساء، حيث كُنّ يبدين زينتَهنَّ علناً بغرضِ الفتنةِ واستمالةِ الرجال، مما ساهم في انتشارِ الزنا بشكلٍ واسع. وقد نهى الإسلامُ عن التبرجِ درءًا للفتنةِ كما في قولِهِ تعالى 

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ

: كما أمرَ جميعَ المؤمنين بغضِّ البصر فقال

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ

إلى جانبِ ذلك، ظهرت أشكالٌ متعددةٌ من العلاقاتِ غيرِ المشروعةِ بين الرجالِ والنساءِ التي اعتُبِرَت "زواجاً" في تلك الفترة، وهي لا تَعْدُوا أن تكونَ سِفاحًا لما فيها من فسادٍ أخلاقي واضح وصريح.

وقد وَصَفَتِ السيدةُ عائشة -رضي الله عنها- في حديثِها بالبخاري عدةَ أنواعٍ من "الزواج" الجاهلي، لم يقرَّ الإسلامُ منها إلا النوعَ الشرعي (الخِطبة والمهر)، بينما اعتبرَ الباقي سِفاحًا، مِثْل 

زواجُ الاستبضاع

إرسالُ الزوجةِ لرجلٍ آخَرَ (ذو نسبٍ أو مكانة) لتحسينِ النسل، ثم عودتِها لزوجِها

زواجُ الرهط

اشتراكُ مجموعةٍ من الرجالِ في امرأةٍ واحدة، ثم يُنسَبُ الولدُ لأحدِهم دون دليل

البِغاء

نصبُ راياتٍ على البيوتِ لإعلانِ ممارسةِ الفاحشة، وهو ما يُشبِهُ "الدعارةَ المُنظمةَ" في عصرنا

زواجُ البدل

تبادلُ الزوجاتِ بين الرجالِ

وأد البنات 

كما انتشرت في الجاهليةِ ظاهرةُ وَأْدِ البَناتِ والتي كانت من أبشعِ المظاهرِ الاجتماعيةِ الفاسدةِ والمخالِفةِ للفطرةِ في الجاهلية. يقُولُ اللهُ تعالى

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ

. والمقصودُ بِوَأْدِ البَناتِ هو دفنُهُنَّ وهُنَّ أحياء، سواءً بسببِ الخوفِ منَ العارِ أو الفقر. وقد وصفَ اللهُ حالَهم، 

إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ

. فقد كانوا يعتبرونَ المولودَ الأنثى عاراً على العائلة. وقد نهى الإسلامُ عن هذا الفعلِ الشنيعِ في قولِهِ تعالى 

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ 

العبودية

أما العبودية، فقد كانت جزءاً لا يتجزأُ من الحياةِ الاجتماعيةِ في العصرِ الجاهلي. كان العبيدُ يُعامَلونَ كأملاكٍ ماديةٍ تُباعُ وتُشترى، بلا أي حقوق.

ومن أبرزِ أمثلةِ الاستعباد، بلالُ بنُ رباحٍ رضي الله عنهُ الذي كان عبداً مملوكاً لأميةَ بنِ خلَف. وقصةُ تعذيبِهِ بعد إسلامِهِ على يدِ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ مشهورة. فقد كان يُسحبُ على الرمالِ الساخنةِ تحت الشمسِ الحارقة ويوضعُ فوقَهُ الحَجَرُ رغبةً منهم في رَدِّهِ عنِ الإسلام.

التعاملِ بالربا 

كما كانت هناك مظاهرُ اقتصاديةٌ فاسدةٌ كالتعاملِ بالربا الذي كان يُعتَبَرُ أبشعَ استغلالٍ لحاجاتِ الناسِ ويُعَمِّقُ الفجوةَ بين الأغنياءِ والفقراء. وفي هذا ظلمٌ للمُعْوِزِ الفقير. وقد وضَعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم رِبَا الجاهلية كلَّهُ ورِبَا العباسِ عمِّهِ في قولهِ في حَجةِ الوداعِ كما في صحيحِ مسلم 

ألا وإن رِبَا الجاهليةِ موضوع. وأولُ رِباً أضعُهُ رِِبانا رِِبَا العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ فإنهُ موضوعٌ كلُّه

هذه المظاهرُ تعكسُ الفسادَ العميقَ الذي كان متجذراً في المجتمعِ الجاهلي. وجاءَ الإسلامُ ليقضي على هذه الممارساتِ الظالمة، ويضعَ أُسُساً جديدةً مبنيةً على العدلِ والمساواةِ والكرامةِ الإنسانية  

جاهليةُ القرنِ الحادي والعشرين.. الانحرافاتُ تعودُ بثوبٍ جديد 

لكن في عصرِنا الحاضر نرى هذه الانحرافاتِ قد ظهرت من جديد وإن تَسَتَّرَت بغطاءاتٍ منمقةٍ فنجد

التبرجُ الرقمي.. فتنةُ العصرِ الحديث 

في عصرنا الحالي، نلاحظُ انتشارًا واسعًا للتبرجِ عبرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي والفضائيات، مما أدى إلى تسويقِ مفهومِ "الجسد" كأداةٍ للفتنة. كما أن العلاقاتِ غيرِ الشرعيةِ مثلَ الزنا والخيانةِ الزوجية، أصبحت أكثرَ وضوحًا في المجتمع، خاصةً مع انتشارِ الأفلامِ والمسلسلاتِ التي تروجُ لهذه السلوكيات.

أشكالٌ جديدةٌ للسِّفاح.. علاقاتٌ بلا ضوابط 

كما نجدُ أشكالًا مشابهةً للسِّفاحِ الجاهلي، مثل "العلاقاتِ العابرة"  و"الزواجِ العرفي" الذي يتمُّ دون ضوابطَ شرعية، مما يؤدي إلى تفككِ الأسرةِ وانتشارِ الفوضى الاجتماعية. كما أن ظاهرةَ العلاقاتِ السرية" أو "الأخدان" التي نهى عنها القرآنُ لا تزالُ موجودةً وإن تغيرت أشكالُها.

وَأْدٌ معاصر.. قتلٌ بلا دماء 

في عصرنا الحالي، لم تعد ظاهرةُ وَأْدِ البناتِ موجودةً بالشكلِ التقليدي، لكننا نجدُ أشكالًا أخرى مثلَ الإجهاضِ الذي أصبح وسيلةً لقتلِ الأبناءِ قبلَ ولادتهم

عبوديةٌ حديثة.. استغلالٌ بأسماءٍ براقة 

في الوقتِ الحاضر، لم تَعُدِ العبوديةُ بالشكلِ التقليدي، لكننا نجدُ أشكالًا حديثةً من الاستغلال، مثل الاتجارِ بالبشرِ والعملِ القسري، واستغلالِ العَمالَةِ الوافِدَةِ في ظروفِ عَمَلٍ غيرِ إنسانية. هذه الممارساتُ لا تزالُ تمثلُ انتهاكًا صارخًا لحقوقِ الإنسان.

الربا.. وحشُ الاقتصادِ الحديث 

اليومَ نَجِدُ أنَّ الربا لا يزالُ موجودًا بأشكالِ مختلفة، مثلَ الفوائدِ البنكيةِ والقروضِ الرِّبَوِيةِ التي تُثقِلُ كاهلَ الفقراءِ وتُحَوِّلُهُم إلى عبيدٍ للديون، وتزيدُ منَ الفجوةِ بين الأغنياءِ والفقراء 

خاتمة

الإسلامُ.. النورُ الذي يَمحُو ظَلامَ الجاهلية

جاء الإسلامُ ليُطهِّرَ المجتمعَ من انحرافاتِ الماضي والحاضر، داعيًا إلى

  • عِفَةِ الجسدِ بَدَلَ التبرج
  • زواجٍ شرعي يحفظُ الأنسابَ والكرامة
  • عَدْلٍ اقتصادي يمنعُ الربا والاحتكار
  • مُساواةٍ إنسانيةٍ تُلغى فيها كلُّ أشكالِ العبودية

فهل نعودُ إلى هديِ الإسلامِ لِنَسْلَمَ من جاهليةِِ العصر؟

فالجاهليةُ ليستْ حقبةً زمنيةً انتهتْ، بل هي حالةٌ فكريةٌ ونفسيةٌ قد تعودُ كلما غفلنا عن قيمِ دينِنا. وليكنْ أيضًا بصيصَ أملٍ: أن الإسلامَ يملكُ الحلولَ الجذريةَ لكلِّ أشكالِ الظلمِ، قديمِها وحديثِها ؟

تعليقات

التنقل السريع